تعد مهنة نشر الكتاب وتوزيعه، بمختلف أنواعه، من أرقى المهن والصناعات، فهي لا تقدم فقط العلم والثقافة والأدب، الذي هو امتداد لمسيرة الأنبياء والمرسلين، بل تتعامل أيضًا مع العقول وتسعى إلى تغذيتها بمختلف العلوم والأفكار. تتعامل دور النشر دائمًا مع العلماء والمفكرين والأدباء وطلاب العلم والقراء.
تنقسم صناعة النشر إلى ثلاث مراحل مهمة حتى وصول الكتاب إلى القراء أو الأسواق؛ الأولى هي النشر، وهو يشمل اختيار المادة العلمية أو الأدبية ثم إخراجها في صورة تليق بالدار وتناسب القارئ أو المتلقي، وما يتبعها من خطوات هامة كالتصميم والإخراج والطباعة والتسويق. الثانية هي شركات التوزيع، التي تقوم بشراء الكتب بسعر الجملة من دور النشر ثم تتولى توزيعها على مختلف المنافذ مثل المكتبات العامة أو الخاصة أو المتاجر الإلكترونية. وأخيرًا، منافذ البيع أو المكتبات والأسواق الإلكترونية، التي تتعامل مباشرة مع الجمهور عن طريق البيع.
وقد تتداخل هذه المراحل؛ فبعض الدور قد تتولى التوزيع، أو يقوم الموزع بالبيع المباشر، وهكذا.
إن لكل مرحلة مميزاتها وصعوباتها. فدار النشر تختار المؤلف والمادة المؤلفة وطريقة الطباعة والإخراج، ثم التسويق وتحديد سعر البيع وأماكن التوزيع. ومن صعوباتها أن الناشر لا يستطيع فرض جميع عناوينه على الموزعين، فقد يتم اختيار بعضها وتجاهل الكثير منها بناءً على رغبة الموزع ورؤيته للعمل.
أما الموزع، فقد لا يبذل الجهد في الاختيار أو في مراحل إخراج العمل أو دفع كل التكاليف المصاحبة، مثل تكاليف المؤلفين والمصممين والمطابع والتسويق، لكنه يختار العنوان الذي يريده والذي يناسبه. وفي أغلب الحالات، يضغط في اتجاه السعر والخصم وطريقة عرض الكتاب، ويبذل الجهود في التوزيع. بعض الموزعين يشترط أن يكون الكتاب لديه تحت التصريف، فلا تتم المحاسبة إلا على الكتب المباعة فقط، وقد يشترط البعض الآخر الحق في إرجاع الكتب غير المباعة. وصعوبات التوزيع تكمن في أن الموزع لا يختار العمل أو المؤلف أو طريقة الإخراج، بالإضافة إلى محدودية تأثيره على سعر الكتاب الذي يحدده الناشر.
أما المكتبات، فميزتها تكمن في البيع المباشر للجمهور، مما يتيح لها الحصول على الانطباعات الحقيقية للعمل. لكن تواجهها صعوبات، منها عدد العناوين التي تستطيع الرفوف استيعابها، بالإضافة إلى تنوع الإنتاج وتعدد الطبعات وتفاوت الأسعار أو نسبة الخصم الممنوحة لكل مكتبة.
ولكن لنركز الآن على العلاقة بين دور النشر والموزعين. الأصل أن يتفرغ الناشر لاختيار العمل والتركيز على جودة الموضوع، بالإضافة إلى الاتفاقيات مع المؤلفين والرسامين والمصممين، وكذلك الطباعة والإخراج والتسويق وتحديد السعر العادل الذي يضمن استمرارية الدار في الإنتاج. لكن تبقى المشكلة في أن الكثير من الموزعين يتعاملون مع دور النشر على أنها تهدف فقط إلى تحقيق أرباح كبيرة دون مراعاة جهودهم وصعوباتهم.
يحرص الكثير من الموزعين على عقد اتفاقيات تمنع التوزيع إلا من خلالهم، مع احتفاظهم بحرية اختيار العناوين والكميات والتوريد للمناقصات والجهات الحكومية. هذا الأمر يقلل من قدرة دور النشر على عرض جميع منتجاتها بحرية. كما أن ضعف الموزعين في بعض المناطق يقلل من فرصة توفر الكتاب في السوق، وقد يكون هامش الربح الذي يضيفه الموزع أعلى من أرباح دار النشر، مما يؤدي إلى رفع سعر الكتاب وصعوبة بيعه أو انتشاره.
تؤثر أيضًا بعض العلاقات الشخصية على تعاملات الموزعين مع دور النشر؛ فهناك من يفضل التعامل مع دور تمنح خصومات كبيرة، أو تكون لها علاقات جيدة مع مسؤولي التوزيع. كذلك، قد يقوم الموزع بتأخير السداد لحين تحصيله من المكتبات أو الأسواق، ما يؤدي إلى تأخير سداد الناشر.
إن العلاقة بين الناشر والموزع علاقة استراتيجية تعتمد على التعاون والتنسيق لتحقيق النجاح. التغلب على المشاكل السابقة وتطوير العمل بينهما يمكن أن يساهم في تحقيق الأهداف المشتركة والوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور.