inner-banner

المقالات

المقالات

ثقافة الإصلاح في قصص الأطفال

author
بتول أحمد خميس

 

زخر تراثُ أدب الطفل بحكايات ذات دلالة سياسية كحكايات "كليلة ودمنة" الذي ترجمه عبد الله بن المقفع للعربية، و"حكايات آيسوب"، حيث ضمَّ الكتابان الأمثالَ والحِكَم ومغامراتٍ ناقدةً الحياةَ الاجتماعية، وداعية للإصلاح الاجتماعي. ولتفادي السخط والنقد قصَّت الأحداثَ بأسلوب هزلي على لسان الحيوانات؛ مما أدى لاستمرار سردها وترجمتها وإعادة صياغتها لتناسب مختلف الأعمار والأجيال.

أحدث التغيرُ المتسارع في أنظمة المجتمعات والتوجهاتُ الفكرية الحديثة انشغالَ كُتّاب أدب الطفل عن الوعي المجتمعي وثقافة إصلاح قضايا الفساد، بالرغم من تعدد نوافذ الإعلام المؤثرة على ثقافة الطفل واتساع معارفه وتعايشه مع المواقف المختلفة كالسياسية والاقتصادية داخل المجتمع. لتأتي الكاتبة الكويتية "لطيفة بطي" وتعيد نهجَ قصص الإصلاح السياسي بنص ممتع بعنوان "فريج ضيم" رسوم "هناء أحمد" وإصدار سيدان عام 2022.

نصٌّ يسرد أحداثًا مؤسفة تَطالُ أهلَ "فريج ضيم" نتاجَ منافسة غير شريفة بين الجارتين "زوغة" و"صوغة" بذلت كلٌّ منهما الجهدَ للتفوق على الأخرى في بيع الحليب لأهل الفريج، ليتفاقم جشعُ "زوغة" وطمعُها فيتجاوز حدودَ الجارة، ويطال خداعُها استغلالها أهلَ الفريج كافة؛ مما تسبب بأضرار مادية، وصحية، وبيئية لسكان الفريج، تناقلت الصحفُ العالمية الأخبارَ لتتدخل هيئة الأمم المتحدة باستعجال لحل القضية.

ولتعدد قضايا القصة وأهدافها، تطلَّب النصُّ التحررَ من التقليدية والنمطية بخلْق نهْج مبتكر دافع للسخط، قريب من لغة الطفل وبيئته. لذلك لجأت الكاتبة لنسج القصة بأسلوب مبهر جامعةً عدةَ مناهج كتابية مختلفة، متلاعبة بعناصر القصة (الزمان، المكان، الشخوص)، دامجة بين الماضي والحاضر، موجدة لغة حوارية ونصية متشابكة، مستندةً على فكاهة الرسوم والإخراج. وبدا النصُّ مفعمًا بالرسائل الظاهرية والمبطنة.

وقد عكس الصراع بين شخصيتي القصة (زوغة، صوغة) قضايا مجتمعية ذات أهمية، منها:

·        القضايا الاقتصادية، كالديون وسرقة المال العام.

·        القضايا السياسية، الانتخابات والوعود الكاذبة.

·        القضايا الاجتماعية، الواسطة وإهمال أصحاب الخبرة والعلم، وقضية البدون.

·        قضايا الإعلام، وتأثيره على ثقافة المجتمع والذوق العام.

·        القضايا البيئية، كالتلوث، ثقب طبقة الأوزون.

ولتشعّب القضايا ومساسها المباشر بالمجتمع وجبَ على الكاتبة الحذق والمهارة والتلون في تبيان الفكرة والنص، فكل قضية تؤثر على شريحة مجتمعية، ومن هنا تتجلى روعة ازدواجية العمق الفكري وبساطة النص؛ لتقدّم كتابًا يحترم عقلَ الطفل، ويخاطبه من عدة زوايا تعدّ كلٌّ منها نافذةً يطلُّ بها القارئ على موضوعات القصة، وتعد النوافذ تلك سرَّ تكامل العمل وتميزه، حيث قسَّمت القراءةُ التحليلية التالية نجاحَ العمل لأربعة عوامل رئيسة، هي:

أولًا: الأصالة والحداثة "ازدواجية الماضي والحاضر"

أحيا قلمُ الكاتبة الحكايات الشعبية بإعادة صياغتها مع الحفاظ على العناصر الأساسية للقصة، أو بالجمع بين أصالة القصة والتغيرات المتسارعة والمستحدَثة في المجتمع، وأتقنت "بطي" توظيفَ الشخصيات التراثية بصورة مبتكرة وشائقة، دامجةً بين الواقع والخيال لتنفرد بسياق قصصي ذي بصمة تراثية حضارية كوميدية تفاجئ القارئ بتطور الأحداث وتصاعدها بانسيابية وتشويق مستمر موجدة لغة مشتركة بين ماضي الأجداد وحاضر الأبناء لتنبثق جمالياتُ النص في موارد عدة نذكر منها ما يلي:

1-     انطلقت الحكاية من نوع القصص الممتدة التراثية، حيث يعتمد هذا النوع على توالي الأحداث وترتيبها، فحدثٌ يعتمد على سابقه، ومهنة تعوّل على أخرى. فتكامل الحياة قائم على تعاون الأفراد وحاجتهم لبعضهم، هذا المعنى للتكامل يحقق العيشَ الكريم للأفراد، والاستقرارَ النفسي والاجتماعي والمالي من جهة، ويبين الترتيبَ المنطقي والتسلسلَ الطبيعي لحياة البشرية من جهة أخرى، والذي تجلى في القصة بحصاد المزارع وبيع البرسيم لمربي الماشية لإطعام الأبقار وإنتاج الحليب لبيعه في السوق من قبل الباعة. وبذلك وظفت الكاتبةُ بذكاء العباراتِ البسيطةَ المدعَّمةَ بصور توضيحية ليتحقق أمران؛ الأول: تعزيز مفهوم استمرار الحياة الطبيعية بتعاون العمل وتكامله بين أفراد المجتمع، والثاني: بيان الأثر المترتب على صفتي الجشع والطمع وانعكاسهما السلبي على طبيعة الحياة البشرية وهدمها مصالحَ الأفراد، وهي رسالة ذكية تمكّن القارئ الصغير من قياس الفارق بين الامتداد الطبيعي للحياة وبين العمل القائم على الجشع والتعدي على حقوق الآخرين، حيث تجلى الأثر بوضوح للقارئ بعد سيطرة "زوغة" وهيمنتها على سوق بيع الحليب وأثر ذلك في إهلاك العاملين في القصة، ليمثل الحدثُ ذاته مرحلةً انتقالية من المنافسة غير الشريفة إلى السيطرة على أهالي الفريج وثرواتهم والتحكم بسوق العمل.

2-    من جماليات النص اشتقاق الكلمات من اللهجة الكويتية، وإن كان للفظها أصلٌ في اللغة العربية، واستلهام الكاتبة الكلمات الكويتية من صحاح اللغة العربية حقق قراءات عدة، أحدها بُني على المعنى الظاهر للهجة العامية؛ لتضفي روحًا تراثية قرَّبت القارئ إلى النص، فاستشعر أهميةَ الأحداث وأثرَها على المجتمع، والآخر المعنى الباطني لأصل الكلمة باللغة العربية؛ لتبين الكاتبة عمقَ اللغة العربية وأهمية الحفاظ على اللغة العربية وتحقق خطابًا مزدوجًا يُسَهّل إيصالَ الفكرة وفهمَ المعنى. وفّقت الكاتبةُ في اختيار الألفاظ الكويتية بدءًا من العنوان إلى أسماء الشخصيات والمرشحين وآخرين، نذكر منها ما يلي:

 

·        "فريج ضيم" عنوان يسلط الضوءَ مباشرةً على مكان أحداث القصة، حيث يتضمن مضمونه الكثيرَ من الإيحاءات المثقلة بالهموم والألم؛ فالفريج في اللهجة الكويتية هو الحي الذي يسكنه الناس، وفي اللغة "الفرقة" طائفة من الناس، لتجمع كلمةُ فريج المعنين المكان والأفراد (المتمثل بشخصيات القصة) حيث يتشارك أهلها بالمصالح والأهداف والقضايا فضلًا عن دفء العلاقة بينهم والتقارب والجيرة. وصْفُ الفريج وأهله بالضيم، الذي يُعرَف في اللغة بالظلم والتعب، لهو تعبير صريح عن الحالة النفسية والاجتماعية والمادية السيئة لأهل الفريج التي أوجِدَت جراءَ جشع "زوغة" وطغيانها، ليشير العنوانُ المبنيُّ على اللهجة واللغة إلى رؤى متعددة منها خضب القصة بطابع التراثية، كما تعرف الصغار باللهجة الكويتية وتعزز مفرداتها، وأخيرًا تشويق القارئ لمعرفة حكاية الفريج واستثارة فضوله لمعرفة علة نعته بالضيم.

·         ثراءٌ لغوي للكاتبة نسج رباطًا وثيقًا بين اللهجة واللغة، ليقدمَ قراءةً متناغمة بين ظاهر المعنى وباطنه، تجلى في استنباط الأسماء من اللهجة الكويتية كاسمي "زوغة" و"صوغة" بالرغم من انعدام استخدام الاسمين في الحياة المجتمعية إلا أن في الأمر دلالات تكشف سماتٍ داخليةً حُجبت بسلوك خارجي، وبانتقاء حاذق للأسماء حفزت القارئ لاكتشاف خبايا الرموز لكل من "زوغة، صوغة".

"صوغة" من العادات الاجتماعية الجميلة وهي هدايا المسافرين التي يأتون بها من السفر، أما "زوغة" فهي تعبير باللهجة الكويتية للإيحاء بجمال الشيء وروعته. اشتركت الكلمتان بجمال الشيء ظاهريًّا، واختلفتا في المعنى العام لأصل الكلمة لغويًّا، ليكتشفَ القارئ فهمًا أدقَّ وأعمقَ لكلا الشخصيتين. ففي المعاجم العربية "صوغة" اسم من الفعل صاغ الشيءَ أي صنعه، ويقال صاغه الله أي خلقه الله، ولا يكون خلقُ الله إلا جميلًا، أما لفظ "صوغة" في اللغة سكبة فتُستخدَم في صياغة الذهب وتشكيلة وصناعته، ليتضمن الاسمُ لهجةً ولغةً المعنى الجمالي، ويتجلى المعنى للقارئ في جمال أصالة عمل "صوغة" واجتهادها لصياغة الأفكار لإنتاج مشروع لكسب المال الحلال. تمثل "زوغة" جمالاً ظاهري أكد المعنى المتعارَف عليه باللهجة، وعُزِّز بالرسوم التوضيحية وبلباقة الحديث والإقناع اللذين تمتلكهما "زوغة"، ذلك القناع المزيف كشفه فعل اسم "زوغة" الذي جاء من زاغ أي مالَ وانحرفَ كما انحرفت شخصيتُها عن جادة الصواب لتتعدى الشرعية والقانون وتصبو لكسب مادي بالمراوغة والخداع.

·        يتسع الثراء اللغوي "لبطي" لتستلهم أسماءَ مرشحي انتخابات الفريج من الأمثال الشعبية، التي تُعدُّ حكمةَ الشعوب، ليُوظف بحنكة للإشارة المجازية عن بعض القضايا والمشكلات المجتمعية من جهة، وخذلان أصحاب الرئاسة من جهة أخرى. ومن خلالها تصبو الكاتبة لأحد أهداف القصة بأسلوب هزلي مقتضَب يقلُّ بها الكلام ويتسع المعنى، لتبعث رسالتين؛ إحداهما لأهل الفريج لتوقظ الوعيَ والإدراكَ للتمييز بين الصالح والطالح، والأخرى للقارئ ليستنبط الحكمة من المثل، وعلة الاستخدام المغاير للأمثال لتنوير بصيرته، بذلك لا يقتصر توظيفُ الأمثال كأسماء، بل هي سمة للمرشح وما ستؤول إليه البلادُ وثروتها بتولي المناصب.

ولتوضيح المقصد نذكر بعضَ ما ورد في نص القصة ملازمًا لما رمَزَ من الصفات وتبيان المعنى المقابل له.

"من صادها بن معشى عيالها" المقصد الاستغلال مقابل العدل.

"حاميها بن حراميها" المقصد سرقة المال العام مقابل الأمانة.

"خشمك خشمك بن لو كان عوي" المقصد الواسطة مقابل المصلحة العامة.

"عط الخباز خبزك لو أكل نصه" المقصد اختيار الكفاءة والشخص المناسب للعمل.

"اللي ما يعرف الصقر بن يشويه" المقصد الجهل مقابل العلم.

"ليحبتك عيني بن ما ضامك الدهر" المقصد التحيز مقابل الإنصاف.

·        يستمر النص بتضمين كلمات تراثية كالأكلات الشعبية مثل "الدرابيل"، وتوظيف كلمة "التجوري" للإشارة للكنز المدفون في أرض الفريج، والقارئ للنص بإمعان يعي المقصد من التجوري باعتباره ثروة البلد ومصدر الدخل الأول "النفط"، وعُلَل ذلك بأمرين؛ الأول لا حاجة من دفن التجوري لصلابته وثقل وزنه، والثاني: للإشارة الرمزية للنفط كثروة موجودة في باطن الأرض، كما في دفن التجوري دلالة فنية مُستلهَمة من الحكايات الشعبية، وفيه تعزيز للروح التراثية للقصة.

ثانيًا: الخطابات النصية المتعددة:

تعددت الخطابات وتنوعت ما بين النص السردي، الإعلانات، أخبار الجرائد والصحف، الهاشتاق، والأفكار الداخلية المُعلَنة للشخصيات، وكان لتعدد الخطابات أهداف منها: إيضاح الفكرة بإيجاز ودون إسهاب لتفادي ملل القارئ وتشويشه، توجيه غير مباشر لانتباه القارئ لبعض الرسائل المبطنة وعلل أسباب الأحداث، توعية القارئ الصغير للتأثير المباشر للإعلام على ذوق القارئ واهتماماته وأفكاره.

ثالثًا: لغة الرسم والخطاب الجسدي:

تكامل النص برسوم فكاهية ساخرة مع وضوح بساطة الحياة وتقارب العناصر البيئية كالمنازل، والملابس، مع بيئة المجتمع الكويتي، عبَرت عنها ريشة الفنانة بصدق مشاعر شخصيات القصة وآمالهم وآلامهم وبدت المشاعرُ جليًّا من تعبيرات الوجه، والحواس الجسدية (كالحركات، والمؤثرات المصاحِبة للشخصيات، والجيوب الفارغة المتدلية للخارج، وتنكيس الحقائب النسائية للدلالة على الأزمة المادية لأهالي الفريج).

رابعًا: أثر الخطاب الإعلامي على الذوق العام:

للخطاب الإعلامي قدرة على التغلغل في أعماق المجتمعات، وتغيير الثقافة، وتوجيه الذوق العام كما يشاء أصحابُ الرأي، وكان الصوت الإعلامي عاليًا ذا تأثير مباشر على ذائقة وثقافة أهل الفريج، وبدا بوضوح من خلال الترويج للبضائع، ومنافسة البضائع الأجنبية للمنتج المحلي والضرر السلبي المباشر على التاجر المحلي، والترويج لمنتجات رديئة بتكلفة مالية باهظة، وأخيرًا تأميل أهل الفريج برؤية متطورة وحديثة دون تغيير واقعي ملموس. وجهت الكاتبة خطابًا إعلاميًّا مغايرًا للقارئ بتوخي الحذر والوعي واليقظة الذهنية عند تلقي الرسائل الإعلامية بمختلف وسائطها.

انتهت حكاية "فريج ضيم" ومازال مصيرها غامضًا، غُيّبت عن أهل الفريج لكثرة المتاعب والمشكلات، كمصير الرجل العالق في الهواء يبقى وحيدًا يعوم في السماء كالبالون الطائر وهي ذات دلالة عميقة للإخفاق في معالجة بعض القضايا المجتمعية.

يعد "فريج ضيم" إنتاجًا قصصيًّا فريدًا يقدم رؤى مختلفة لثقافة الطفل، ومنحى فكريًّا منبثقًا من بيئة المجتمع، وهذا أمر يُحسَب للكاتبة بقدرتها على قراءة القضايا المجتمعية وسردها بأبعاد تراثية حضارية كوميدية تتناسب وعمر الطفل.

 

bg-element

المقالات

مقالات ذات صلة

عرض الكل
المقالات
news-card

تزوير الكتب

القضية قديمة، ونواجه نفس الأمر كل عام في معرض القاهرة الدولي للكتاب في مواعيده القديمة الأسبوع الأخير من يناير والأول من

author
يوسف القعيد
اقرأ أكثر
news-card

بلاغة الألوان وأثرها في إثراء خيال الطفل

يحتاج الطفل خلال مراحله التعليمية إلى تزويد الطفل بنصوص أدبية تكون سلسة من حيث السرد والوصف، ومعقدة من حيث الصورة البلاغ

author
السيد معطى الله محمد الأمين - كاتب جزائري
اقرأ أكثر
news-card

المانجا اليابانية وأدب الأطفال

"المحقق كونان" هي واحدة من أشهر قصصها المعروفة عالمياً وعربياً، وقد صدر منها ما يقارب 100 مجلد. وتتميز بأحداثها وحبكها ا

author
السيدة شاهيناز العقباوي
اقرأ أكثر