القضية قديمة، ونواجه نفس الأمر كل عام في معرض القاهرة الدولي للكتاب في مواعيده القديمة الأسبوع الأخير من يناير والأول من فبراير.
وبمجرد انتهاء المعرض يتوقف اهتمامنا بالقضية، رغم خطورتها على النشر الذي يعد أحد مؤشرات الحضارة والحياة الفكرية، ليس في عصرنا الحديث بكل ما يقدمه لنا من رؤى، ولكن منذ أن عرفت البشرية نشر الكتاب. تتباهى بعض الدول بعدد الكتب التي تطبعها وتعتبرها مقياسًا للحضارة والحياة في القرن الحادي والعشرين.
وأخيراً أرسل لي محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب مقالاً عن هموم تؤرق كل مثقف مهما كان توجهه، لأن عالماً بلا كتب لا يطاق. قد تكون الإغراءات موجودة هنا وهناك، لكن الكتب ضرورية للإنسان المعاصر. منذ اختراع المطبعة عام 1440 على يد جون جوتنبرج، تحول المنتج الثقافي الذي كان مكتوبًا بخط اليد ويحتفظ به عدد محدود من النخب إلى كتاب مطبوع يتيح للقارئ اقتنائه والاستفادة منه، بل وتقدير قيمه. والأفكار والمعاني التي يحملها. لدرجة أن بعض الفلاسفة يقولون أنه بعد أن ينتهي شخص ما من قراءة كتاب، يكون شخص آخر على وشك البدء في القراءة. أتمنى أن يتوقف الأمر عند حدود تزوير الكتب، رغم خطورتها وآثارها السلبية على حركة النشر في مصر والعالم العربي. وبالفعل، وصل وباء كورونا العام الماضي، ما أثّر سلباً على حركة النشر. وبسبب الوباء توقفت 70% من دور النشر عن الإنتاج، إذ لا يزور أحد المكتبات ولا يتم تنظيم المعارض.
أعود لتزوير الكتب، وقبل أن أدخل في الموضوع وأحاول إدراك أبعاده، أقول إن القراءة ضعيفة في عالمنا العربي، ومصر منها لأسباب كثيرة لن أعددها ليقيني بأنني سأصل إلى الأمية، المشكلة الكبرى في كل مجالات الحياة، وليس قراءة الكتب فقط. وأحلم أن يمتد عمري حتى نحتفل بمحو أمية آخر مصري. سيكون احتفالًا له تأثيرات قبل وبعد. لكن مع وجود التزوير وحجمه وتأثيره على النشر، ليس على المرء إلا أن يسير في شوارع وسط القاهرة المربعة ليدرك حجم القضية واختيارات المزورين بالنسبة لنوعية الكتب التي يقومون بتزويرها. ومن المعروف أنهم لا يقومون بتزييف جميع الكتب الحديثة، ولكنهم يركزون على الكتب الشعبية التي تحقق مبيعات عالية جدًا. بمجرد أن يصل الكتاب إلى مستوى يمكن أن يكون فيه المؤلف والناشر سعيدين، سيقوم المزورون على الفور بتنشيط أدوارهم التخريبية في عملية النشر من البداية إلى النهاية.
أنواع التزييف ورقية وإلكترونية، واليوم سأكتفي بالكتابة عن التزييف الورقي، لأن نتائجه تبدو أسرع من غيرها، وحتى لو قال لي أحدهم أن التزييف الإلكتروني أخطر من التزييف الورقي، و أن آثارها مخيفة على مستقبل عملية النشر في بلادنا، والتزييف إذا كان عملية قرصنة، للناشر مما يسبب له خسائر غير محدودة ويصعب السيطرة عليها، فهو خسارة كبيرة للمؤلف الذي من حقه أن يعيش حياة كريمة ومستوى معيشي مقبول، وربما لا يحصل إلا على دخل ثابت من كتبه.
علاوة على ذلك، يتسبب التزوير في خسائر فادحة للعديد من دور النشر، مما أدى إلى إغلاق بعضها بسبب الخسائر التي تتكبدها، ونتيجة لذلك تصبح غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه الحكومة مثل الضرائب والتأمين لموظفيها. ، إلخ.
ولفهم حجم الدمار الذي يحدثه التزوير، ما عليك إلا أن تأخذ في الاعتبار أن الفرق بين أسعار الكتب المزورة والأصلية هو 60% من السعر. وقد خلق هذا شعورًا لدى القارئ بأن الناشر الأصلي كان يبالغ في سعر الكتاب. يفقد ثقة القارئ ويعامله كتاجر جشع وليس كحامل رسالة، مع أن النشر دون مراعاة الربح والخسارة هو رسالة حقيقية. ولا بد أن يكون القارئ، بعيداً عن أي رواية، قد أدرك أن المزور هو لص يسرق من المؤلف والناشر ويدمر صناعة النشر، وهو ما قد يوصلنا إلى مرحلة لم يعد فيها الكتاب الحديث موجوداً، لا. حتى القديم. وبمجرد إعادة طبعه، لا يتحمل المزور تكلفة تأليف الكتاب أو عملية الطباعة، كما يفقد حق الدولة والمجتمع في الحصول على التزامات مالية من ضرائب وتأمين وأشياء أخرى كثيرة. نحن نتعامل مع جريمة مكتملة الأركان، وعندما تفهم أن مصر دولة لها دور، ويأتي الدور الثقافي في مقدمة أدوارها الكثيرة والمتنوعة، ورغم أن كل الأدوار مهمة لأن هذا هو القدر مصر، الدور الثقافي يأتي أولا. لذلك لا بد من دراسة موضوعية ودقيقة قبل السقوط. من أجل مصر ودورها الحضاري الذي قد ينحسر أو يختفي أو يضعف أحيانا - لا قدر الله - ولكنها لا يمكن أن تموت، وعلينا أن ندافع عن بقائها مهما توقعه ويسعى إليه إخواننا وأصدقاؤنا مهما كان الأمر. يكلفنا.
